دراسات إسلامية

 

مجابهة الصحوة ... الوسائل والعاقبة

 

بقلم : الأستاذ أشرف شعبان أبو أحمد / جمهورية مصر العربية

 

     في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر والتي وقعت على أمريكا في عام 2001م ، اتخذت عدد من الدول بعض الإجراءات لمجابهة الصحوة الإسلامية ، وإن كان من هذه الدول من سبقت هذه الأحداث في اتخاذ مثل هذه الإجراءات ، ما جعل من الصحوة الإسلامية لدى أبنائها ، قضية تهدد أمنها ، فهي القضية المدرجة دائمًا وأبدًا على جدول أعمال أية قمة عربية أو إسلامية ، سواء على مستوى الرؤساء أو الوزراء ، وأصبح أبناء الصحوة كما لو كانوا أعدى أعداء الوطن تحشَد لهم كلُ القوى ، وتُنَسَّق جهودُ الدول مجتمعة لمواجهتهم . ويُستعان بالقوى الأجنبية للعمل على ضرب أماكن تجمعهم خارج أو داخل الوطن بصورة مستمرة ، ومحاصرتهم لمنعهم من ممارسة أية أنشطة لخدمة الدعوة الإسلامية ، ومنعهم من استخدام المساجد لتربية النشء وتعليمه أمور الدين والدنيا ، وقصر استخدامها على الصلاة ، واستبدال الأئمة الموثوق فيهم بآخرين تابعين لأجهزة الأمن ومن صنع السلطات، وغلق مدارس تعليم الدين غيرالحكومية، فضلاً عن الحذف المستمر لبعض علوم الدين الضروريـــة من المقـــــررات الـدراسية أو تقليص عدد ساعات دراستها في المدارس الحكومية ، ومنعهم من إنشاء حزب ينادي بالمبادئ الإسلامية التي يحملونها ويعلنون عنها ، ثم يُطلَب منهم أن ينخرطوا في الأحزاب الموجودة وهي إما أحزاب شيوعية أو علمانية أو أحزاب قامت على مبادئ قومية تخالف مبادئ الإسلام ، وتحويل من يثبت اشتراكه في أي عمل أو نشاط إسلامي لا يروق للسلطات ، مهما كانت طبيعةُ ونوعية هذا النشاط، إلى القضاء العسكري لمحاكمته محاكمة عسكرية تصل أحكامها إلى الإعدام في كثير من الأحيان ، مع تعرضهم الدائم للاعتقال غير محدود الأجل والتصفية الجسدية في حالة أية مقاومة أثناء الاعتقال، أو لمجرد الاشتباه والتعذيب البشع في المعتقلات ، ومنعهم من السفر والانتقال وحجز أهاليهم كأسرى أو رهائن ، وممارسة أقصى وسائل الضغط النفسي والبدني عليهم، ومصادرة أملاكهم وممتلكاتهم ، وهدم منازلهم وتخريبها ، وتضييق سبل الرزق عليهم . ويبذل ترزية القوانين كل ما في وسعهم لتفصيل قوانين تحول دون وصول أبناء الصحوة لأية مراكز قيادية أو سياسية ، كما يحدث في التعديل المستمر لقوانين تنظيم العمل النقابي واتحاد الطلاب واختيار عمداء الكليات والجامعات والعمد والمشايخ ، والشروط الوظيفية للمناصب القيادية والأعمال والمهن التي تتطلب تواجدًا مع التجمعات من طلاب أو عمال أو غيرهم من سائر فئات الشعب ، خاصة بعدما شعر الناس بتحسن ملموس عندما تمكن أبناء الصحوة من اعتلاء المناصب العليا في بعض الوظائف والنقابات واشتغلوا بالمشاريع الاقتصادية النافعة للمواطنين ، وفي حالة فشل ترزية القوانين ، ووصل أبناء الصحوة إلى الحكم عن طريق ما يسمى بالقنوات الشرعية وعبر صناديق الانتخاب . يقال النظام بالكامل من رأسه حتى عقبيه ، ويؤتى بآخر كما حدث في الجزائر ؛ ليسد أمام أبناء الصحوة الباب لتولي زمام الأمـور ، كما تتفانى أجهـزة الإعــلام في الإســاءة إليهم وتشويه صورتهم وأغراضهم وتجعل منهم قتلة وسفاحين ومنتهكي أعراض وناهبي أموال ومرتكبين لجميع الموبقات . والمطلع على هذه الإجراءات التي تُتَّخَذ في معظم الدول يتراءى له من تشابهها ، كما لو كانت قصة لمؤلف واحد أو فيلم سينمائي لذات المؤلف وذات الأحداث والحبكة ونفس الأدوار مع اختلاف شخصية الأبطال .

     ومن ضمن هذه الإجراءات التي اتخذت في دولة كمصر، القوانين الصادرة والمدرجة تحت اسم «قانون مكافحة الإرهاب» وما اشتملت عليه من المادة 86 مكرر (د) والتي تنص على أن يُعاقَب بالأشغال الشاقة المؤقتة كل مصري تعاون أو التحق بغير إذن أو تصريح كتابي من الجهة الحكومية المختصة ، بالقــوات المسلحة لدولة أجنبية أو هيئة أو منظمة أو جماعـــة أيًا كانت تسميتها يكون مقرها خارج البلاد وتتخذ من الإرهاب أو التدريب العسكري وسائل لتحقيق أغراضها حتى ولو كانت أعمالها غير موجَّهة إلى مصر، وتكون العقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة إذا تلقى الجاني تدريبات عسكرية فيها أو شارك في عملياتها الموجهة إلى مصر.

     «بادئ ذي بدء» فإن مثل هذه القوانين شُرِعَت لتنال من كل مصري يجاهد بنفسه في سبيل الله في أية بقعة من بقاع العالم ، وهذه المادة بالأخص قد فصلت خصيصًا وبالمقاس لتصيب أول ما تصيب المجاهدين المصريين في أفغانستان ومن يحذو حذوهم، وإن كان المشرع قد فاقته ذكر أسمائهم وتحديد أوصافهم إمعانًا وزيادة في تخصيص هذه المادة لهم. والمجاهدون المصريون – كما وصفهم رسول الله – خير أجناد الأرض لأنهم ونساءهم في رباط دائم؛ فهم دائمًا وأبدًا مستعدون لتلبية نداء الجهاد في أي وقت وفي أي مكان ، وهم الذين جاهدوا الاحتلال الأجنبي لمصر بكافة جنسياته وأشكاله على مر العصور، وهم الذين قلقلوا استقرار إسرائيل وقت كانت العمليات الفدائية تخرج من أرض مصر، وهم الذين وقفوا جنبًا إلى جنب بجوار الشعوب العربية لنيل استقلالها .

     وهذا المجاهد سواء كان مصريًا أو غير مصري، فهو أفضل الناس ؛ فعندما سُئِل – عليه الصلاة والسلام – أي الناس أفضل ؟ قال : «مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله» قالوا : «ثم من»؟ قــال : «مؤمــن في شعب من الشعاب يتقى الله ويدع الناس مــن شره» (1) وترجع هذه الأفضلية لأنه وضع الــدنيا تحت قدميه ، لا تبهره زخرفتها ولا تلهيه متعتها ؛ فمنهم من تــــرك دراسته وهو في السنوات النهائيــــة من كليات القمــة المرموقة التي يسعى إليها غيرهم سعيًا ، ومنهم من ترك زوجته في أول سنوات الزواج بدلاً من أن يمضى ليله ونهاره بيــن أحضانها ، منهم من ترك أولاده إما رضعًا أو صبية صغارًا ، ومنهم من ترك تجارته أو عمله وأخذ جملة ماله ليجاهد به في سبيل الله بدلاً من استثماره في مشاريع دنيوية ، ومنهم من اقترض ثمن تذكرة السفر، كل منهم ترك الدنيا بكل ما فيها ، وذهب ليقيم فريضة من فرائض الله وركنًا من أركان الإسلام لا استقــامــــة للإسلام ولا قــوام لشــرائعـــه إلا بــه . ألا ! وهو الجهاد الذي قــال عنـــه رســـول الله – – كما جـــــاء في (مسند الإمام أحمد) «ذرة سنام الدين» وهذا الجهاد لا يعادله شيء ، فمهما أدى الفرد من صلاة وصيام فلا يعادل المجاهد ؛ ففي «صحيح البخاري» و «مسلم» و «سنن الترمذي» و «النسائي» و «مسند الإمام أحمد» عن أبي هريرة قال: قيل: «يا رسول الله ! ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟» قال : «لا تستطيعونه» فأعاد عليه مرتين أو ثلاثًا كل ذلك يقول: «لا يستطيعونه» وقال في الثالثة : «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله» ومن منا يقدر على ألا يفتر من صيام وصلاة «قيام و قنوت» حتى يرجع المجاهد في سبيل الله طال به المقام أم قصر والجهاد ماض إلى يوم القيامة شئنا أم أبينا ، لايبطله جور جائر ولا عدل عادل، ففي «سنن أبي داؤد» قال – رسول الله – : «والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل» .

     والجهاد في سبيل الله لايحتاج إلى إذن من سلطان ولا أمــــر مــن حاكم ؛ فالـــذين يؤمنون بالله ويعتقـــدون بيوم الجزاء لا ينتظرون أن يُؤذَن لهم في أداء فـــريضــــة الجهــاد ، ولا يتلكأون في تلبية داعي النفرة في سبيل الله بالأموال والأرواح ؛ بل يسارعون إليها خفافًا وثقالاً – كما أمرهم الله – طاعـــة لأمـــره ويقينًا بلقائه وثقة بجزائه وابتغاءً لرضاه . وإنهم ليتطوعـــون إليــه تطوعًا فلا يحتاجون إلى من يستحثهم فضلاً عن الإذن لهم ، إنما يستأذن الـــــذين خلت قلــوبهم من اليقين ، فهــم يتلكأون ويلتمسون المعـــاذيــر لعل عـــائقًا يحول بينهم وبين الجهاد ، قال تعالى: «لا يَسْتَاْذِنُكَ الَّذِيْنَ يُؤْمِنُوْنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُّجَاهِدُوْا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيْمٌ بِالْمُتَّقِيْنَ إِنَّمَا يَسْتَاْذِنُكَ الَّــذِيْنَ لاَ يُــؤْمِنُوْنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُـــوْبُهُمْ فَهُمْ فِيْ رَيْبـِهِمْ يَتَرَدَّدُوْنَ» (سورة التوبة الآيات 44-45) .

     ومن أركان الجهاد الإسلامي أن يكون وراء إمام مسلم وتحت رايته ليس تحت راية الكفر والكفرة مهما كانت تسميتهم ودوافعهم ؛ فلا يجوز لنا أن نجاهد تحت راية الأمم المتحدة ولا تحت راية أمريكا أو غيرهم من أعداء الإسلام ولا بإذنهم. ولا يجوز لهم أن يقاتلوا ضمن صفوفنا المقاتلة ، فقد اختلف الفقهاء حول قتال الكفرة مع المسلمين ، فقال مالك وأحمد : «لا يجوز أن يُستَعان بهم ولا أن يعاونوا على الإطلاق». وقال مالك : «إلا أن يكونوا خدامًا للمسلمين فيجوز». وقال أبوحنيفة : «يُستعان بهم ويعــاونون على الإطلاق ما دام الإسلام هو الغالب الجاري عليهم فإن كان حكم الشرك هو الغالب كره». وقال الشافعي : «يجوز ذلك بشرطين هما أن يكون بالمسلمين قلة ويكون بالمشركين كثرة ، وأن يعلم من المشركين حسن رأي في الإسلام وميل إليه». فشروط الشافعي وأبي حنيفــة لا تنطبق علينا ؛ فلا الإسلام غالب جار على المشركين ، ولا نعرف منهم حسن رأي وميل إلى الإسلام ، وما نعلمه ولا يخفى على أحد هو حقدهم الأعمى وتعصبهم ضد الإسلام والمسلمين.(2)

     وترك الجهاد من القدرة عليه كبيرة من الكبائر وسببًا للهلاك في الدنيا والآخرة . ففي الدنيا فإن الجبان الرعديد الذي لا هم له في قتال الكفار ولا طاقة له بالذود عن حياضه يكون ذليلاً مستعبدًا تابعًا غير متبوع . وأما في الآخرة فإنه يهلك – إن لم يتغمده الله برحمته – بترك فريضة محكمة أنزلها الله في كتابه أعز بها الإسلام والمسلمين وأذل بها الشرك والمشركين . قال – عليه الصلاة والسلام – : «لئن تركتم الجهاد وأخذتم بأذناب البقر وتبايعتم ليلزمنَّكم الله مذلة في رقابكم لا تنفك عنكم حتى تتوبوا إلى الله وترجعوا إلى ما كنتم عليه» (مسند الإمام أحمد) وقد صدق الرسول الكريم الذي لا ينطق عن الهوى؛ فإن الناظر في أحوال المسلمين اليوم الذين أضاعوا معظم دينهم ، وكان في مقدمة ما أضاعوا جهاد الكفار والمنافقين ، يرى أنه قد ألزمهم الله ذلاً في رقابهم ، فقد تكالبت عليهم الأمم وتداعت عليهم ، وأصبحوا في أقصى المؤخرة بين الدول ، أمرهم بأيدي أعدائهم يحركونهم كالدمى ، وإن أصابتهم صغيرة أو كبيرة من الأمور يُهرَعون إلى الشرق أو الغرب مستجدين العون والمدد ، وها هم يخسرون من الأنفس والأموال ويقدمون على مذابح الذل مُرغَمين صاغرين لأعدائهم أضعاف ما يتطلبه منهم الجهاد . والإسلام يأبى على معتنقيه أن يستذلوا ؛ بل إنه لم يجعل في قلب المسلم مكانًا للذل إلا ذل التواضع والرحمة لأخيه المسلم . قال تعالى : «أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِيْنَ» (سورة المائدة آية 54). وفيما عدا ذلك فلا ذل ولا استذلال . إنما عزة واعتزاز على كل ما في الأرض . قال تعالى : «وَلِلّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُوْلِه وَلِلْمُؤْمِنِيْنَ وَلـٰـكِنَّ الْمُنَافِقِيْنَ لاَ يَعْلَمُوْنَ» (سورة المنافقون آية 8) .

     والمجاهد المسلم يدافع عن أخيه المسلم في آية بقعة أو مكان من العالم . مهما تباعدت الديار، ومهما اختلفت الأجناس والألوان والألسنة ؛ فأي اعتداء على أي مسلم فهو اعتداء على المسلمين أجمع، وأي اعتداء على أية أرض مسلمة فهو اعتداء على أرض المسلمين أجمع ؛ فإذا استغاث مسلمو «فلسطين» أو «كوسوفو» أو «الشيشان» أو «الفلبين» أو «الهند» أو «كشمير» أو مسلمو أي دولة من دول العالم ، وجب على سائر المسلمين أن يهبوا عن بكرة أبيهم ليدافعوا عنهم . فعندما أطلقت امرأة مسلمة أسرها الروم صيحة : «وامعتصماه»؛ فما أن سمعها المعتصم حتى هب من «بغداد» بجيش قوي خاض به المعارك حتى خلصها من الأسر. وهذه الواقعة ليست الفريدة من نوعها ، فقد أدبت الدولة الإسلامية كل من اعتدى على كرامة أي من أبنائها . وهذا ما فعلته مع «بني قينقاع» لاعتدائهم علىعرض امرأة مسلمة ، كما جردت حملة عسكرية لمعاقبة قرية «مؤتة» ؛ لأنهم قتلوا واحدًا من المسلمين هو الحارث بن عمير الأزدي . والتأريخ الإسلامي يحكى لنا عن قادة جهاد كصلاح الدين الأيوبي والظاهر بيبرس وكثيرون غيرهما كانت حركتهم الدائبة ومعاركهم المستمرة في نطاق الوطن الإسلامي كله ، مما جعل الدولة الإسلامية محل توقير ورهبة من الخصوم(3) .

     وعلى كل مسلم نصيب في مجاهدة أعداء الله، ولا يستثني مسلم نفسه من ذلك ، ففي «صحيح مسلم» و «سنن النسائي» و «أبي داؤد» و «مسند الإمام أحمد» عن أبي هريرة عن النبي أنه قال : «من مات ولم يغزو لم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق» ومن لم يجاهد بنفسه ، ويجاهد بماله بأن يعين غازيًا أو يخلف غازيًا في أهله ، فمن جهز غازيًا في سبيل الله كان له مثل أجر الغازي قال عليه الصلاة والسلام : «من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازيًا في سبيل الله بخير فقد غزا» (4) ومن لم يغز أو يجهز غازيًا أو يخلفه في أهله بخير، أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة ، ففي «سنن أبي داؤد» و «ابن ماجة» و «الدارمي» عن أبي أمامة عن النبي أنه قال : «من لم يغز أو يجهز غازيًا أو يخلف غازيًا في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة» فأقل ما يجب علينا تجاه إخواننا المجاهدين أن نعين أهاليهم على المعيشة ، نمد لهم يد العون والرعاية ، ونيسر لهم سبل الحياة ، نلبي طلباتهم ونقضي حاجاتهم ؛ فلا ينقصهم من غياب عائلهم إلا وجهه. وهذا هوالواجب ، وإن لم تقم به الحكومات وجب على الأفراد القيام به .

     والمجـــاهــــد الذي تـــرك الدنيا وما فيها ، وقدم روحه ، وبذل ماله ، وذهب لِيُلَبّي نداء الجهاد راغبًا في النصر أو الشهادة ، وأقصى أمانيه الموت في سبيل الله وليس موتة واحدة ، إنما كما جاء عن أبي هريرة عن الرسول أنه قال : «والذي نفسي بيده لوددت أنى اُقْتَلُ في سبيل الله ثم أُحْيَا ثم أُقْتَلُ ثم أُحْيَا ثم أُقْتَلُ ثم أُحْيَا ثم أُقْتَلُ» (5) هذا المجاهد الذي ضحى بكل غال ورخيص ، والذي رباطــــه يـــوم في سبيل الله خير لــــه من الدنيا وما عليها ؛ فعن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله قال : «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها ، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها ، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها» (6) هذا المجاهد لم ولن تثنيه مثل هذه القوانين عن مواصلة الجهاد .

     فبدلاً من استقبال المجاهدين كما كان يفعل الرسول – عليه الصلاة والسلام – كان إذا قفل كبر ثلاثًا قال : «آيبون إن شاء الله تائبون عابدون حامدون لربّنا ساجدون صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» (7) أو كما تستقبل دول العالم جنـــودها عنــد عودتهم منتصرين بالورود والأغاني والأناشيد ، تود حكومتنا استقبالهم استقبالاً من نوع آخـــر ، بيد تحمل السلاح الموجّه إلى صدورهم ، وباليد الأخرى أعواد المشانق لقصف رقابهم ، كما نقيم المحاكم وتنصب المشانق في كل الموانئ والمطارات والطرق لضمان جدية تطبيق القانون وعدم إفلات مجاهد في سبيل الله من العقاب. روى البخاري في «صحيحه» بينما رسول الله يصلي بفناء الكعبة ، إذا أقبل عقبة بن أبي معيط ، فأخذ بمنكب الرسول ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا ، فأقبل أبوبكر – رضي الله عنه – فأخذ بمنكبه ودفعه عن النبي ثم قرأ قوله تعالى : «أَتَقْتُلُوْنَ رَجلاً أَنْ يَّقُوْلَ رَبِّيَ اللهُ» (سورة غافر آية 28)(8).

     فيا ولاة أمورنا قد أنعم الله عليكم بهذا الملك والظهور في الأرض فراعوا هذه النعمة ، واحذروا أن تسلبوا هذا الملك العزيز، فما تعرضت الدولة للدين إلا سلبوا ملكهم وذلوا بعد عزهم ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : «نحن قوم أعزنا الله عز وجل بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله». وفي هذه الكلمة إدراك دقيق وعميق من عمر رضي الله عنه لارتباط مجد العرب بهذا الإسلام ، وهذا ما أكدته الأيام ؛ فالعرب منذ أن أنزل الله عز وجل عليهم الإسلام ، لاتجد موقف شرف لهم إلا وهو مربوط بهذا الدين ، ولا تجد موقف خزي أو ذلة لهم إلا بسبب بعدهم عن الدين ، وآخر هذه المواقف حينما سيطرت قوى اليسار «الشيوعية» في المنطقة العربية على مقاليد الأمور، حيث طغى حكم الفرد ، واتبع أسلوب العنف في فرض الرأي وقمع الرأي الآخر، فألصقت بالأمة تهمة الاستبداد و «الديكتاتورية» و «الفردية» ، وألحق بها عار التخلف ، وضرب الاقتصاد القومي ، وهرب الرساميل الوطنية ومن قبله اليد العاملة إلى الخارج، وأحجم الرساميل الأجنبية عن المساهمة في إقامة المشاريع الحيوية داخل الوطن ، واستترفت الطاقات والثروات ، فضلاً عن هزيمتنا في حربنا مع العدو الإسرائيلي، ولم يقتصر الأمر على هذا؛ بل فتح ملف الأقليات واشتعلت حروب الطوائف والحروب الأهلية بين أبناء البلد الواحد ، ومع انقشاع رياح اليسار بدأت الأمور في التحسن فأنعم الله علينا بالنصر على العدو الإسرائيلي ، وشهدت المنطقة حركة تنمية وتقدم في كافة المجالات ، وارتفع مستوى المعيشة لمعظم أبناء الأمة . بل إننا نجد أن لواء الإسلام عندما تخلى عنه العرب ، رفعته شعوب مسلمة غير عربية فعزت به ، مصداقًا لقوله تعالى في سورة محمد آية 38 : «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثـُمَّ لاَ يَكُوْنُوْا أَمْثَالَكُمْ» فقد رفعه «السلاجقة» و «البوهيون» و «المرابطون» و«العثمانيون» وعزوا به، فقد كانت الدولة العثمانية طيلة خمسة قرون أعظم دولة في العالم بحملها هذا الدين ، ومع بداية انحرافها عن أمر الله عز وجل بدأ انهيارها(9).

     وباستمرار المطاردة لأبناء الصحوة الإسلامية سيعود بنا الأمر إلى ما كان عليه في أسوأ أحواله ، قال تعالى : «عَسىٰ رَبُّكُمْ أنْ يَّرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِيْنَ حَصِيْرًا» (سورة الإسراء آية8) مما يعرضنا لما تعرضت له الأمم السابقة عندما بعدت عن الدين قال تعالى : «فَمَن يَّنْصُرُنَا مِنْ بَأسِ اللهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيْكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيْكُمْ إِلاَّ سَبِيْلَ الرَّشَادِ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ مِثْلَ دَأبِ قَوْمِ نُوْحٍ وَّعَادٍ وَثـَمُوْدَ وَالَّذِيْنَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيْدُ ظُلْمًا لِلعِبَادِ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّوْنَ مُدْبِرِيْنَ مَالَكُمْ مِّنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُّضْلِلِ اللهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ. (سورة غافر الآيات 29-30)

*  *  *

المراجع :

(1)           «فتح الباري» بشرح «صحيح البخاري» لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني ج6 ص 8 .

(2)           مقال «إعدام مجاهد» بقلم أشرف شعبان «مجلة منبر الشرق» العدد رمضان 1413هـ . مارس 1993م .

(3)           مقال «وامعتصماه» بقلم أشرف شعبان «جريدة أخبار العالم الإسلامي» العدد 1174 بتاريخ 16/7/1990م .

(4)           «فتح الباري» بشرح «صحيح البخاري» لابن حجر العسقلاني ج6 ص 59 .

(5)           «فتح الباري» بشرح «صحيح البخاري» لابن حجر العسقلاني ج6 ص 20 .

(6)           «فتح الباري» بشرح «صحيح البخاري» لابن حجر العسقلاني ج6 ص 100 .

(7)           «فتح الباري» بشرح «صحيح البخاري» لابن حجر العسقلاني ج6 ص 222 .

(8)           «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير ج4 ص 77 .

(9)           مقال «وامعتصماه» بقلم أشرف شعبان «جريدة أخبار العالم الإسلامي» العدد 1174 بتاريخ 16/7/1990م .

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الثانية – رجب 1426هـ = يوليو – سبتمبر 2005م ، العـدد : 7–6 ، السنـة : 29.